العزاء والصبر في القرآن الكريم والسنة النبويةالشيخ مثنى الزيديالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد:
لنعلم، أن سنة الله تعالى ماضية على خلقه وعبيده، جعل للدنيا نهاية، وللآخرة بداية، فجعل الأولى دار عمل، و جعل الآخرة دار جزاء.
قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، يقول السيد قطب معلقا على هذه الآية الكريمة: (إنه لابد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل؛ ثم تأتي نهايتها حتماً.. يموت الصالحون يموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت، كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارق هذه الحياة.. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة، إنما الفارق في شيء آخر، الفارق في قيمة أخرى، الفارق في المصير الأخير: ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق، وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان، القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب)أ.هـ.
فبما انه مصير وسنة، فلا حاجة إذن للاعتراض، فصاحب المُلك أحق بملكه، ونحن ملكه، وما ينجيك إلا الرضا والصبر، ولا يضنيك إلا السخط والجزع، ثم لا جدوى منهما.
فسارعت الآيات بالتنبيه والأحاديث بالتفصيل في أحكام مَنْ ألَـمَّته مصيبة الموت، نقف عندها على محاور:
المحور الأول: فضل الصبر وجزاء الصابرين.
قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
(المصيبة) هنا في هذه الآية الكريمة هي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما، ومن ذلك موت الأحباب والأولاد والأقارب والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحب يدخل ضمن المصيبة أيضا.
فجزاء الصبر على ذلك هو (الرحمة) أي: عليهم صلوات الله ثم رحمة عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر.
﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ الذين عرفوا الحق، وهو علمهم بأنهم لله وأنهم إليه راجعون وعملوا به، وهو هنا صبرهم لله.
وكذلك فان الله عز وجل يقول: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146].
ففي الآية الإطلاق بمحبة الله عز وجل للصابرين، الذين يصبرون على لأواء الحياة ومتاعبها، وكيف لا يُرجى حب الله وهو الذي أعطى وأنعم؟ وكيف لا يُبتغى حب الله وهو الذي أغني وأكرم؟ وكيف لا وهو مالك الملك؟ حتى قال سبحانه في سورة الزمر: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، ثم هذا جزاؤه، يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهذا لا يكون إلا لمن صبر ابتغاء وجه الله سبحانه.
قال الشاعر:
إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر |
وهذا مجرب لدى النفوس الكبيرة، المتعالية على مصائب الدهور، فتعود بعد قذفها بشبهة العجز من قبل، إلى حقيقة القدرة في أجمل رؤى، فيكون اشتماله على الخير محاطا به من كل جوانبه وفي كل لحظاته، وهذا ما تؤكده أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين فقالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا » قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّىَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-رواه البخاري.
وهذا الأمر ليس مختصا بموت الزوج كما ظن البعض، وإنما بكل مصيبة تلمُّ النفس، يؤكده حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي ! فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده ! فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » رواه الترمذي وحسنه الألباني.
ولا يجني أحد ثمارا كهذه إلا بتحقيق شروطها ليكون الصبر فيها أعلاه وأرقاه، فأول هذه الشروط: الإخلاص لله تعالى في الصبر وهذا قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22]. لله وحده، لا تحرجاً من أن يقول الناس: جزعوا، ولا تجملاً ليقول الناس: صبروا، ولا رجاء في نفع من وراء الصبر، ولا دفعاً لضر يأتي به الجزع، ولا لهدف واحد غير ابتغاء وجه الله، والصبر على نعمته وبلواه، صبر التسليم لقضائه والاستسلام لمشيئته والرضى والاقتناع.
وثاني شروطه: عدم الشكوى من الله لعباده، وبهذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال الله تعالى: (إذا ابتليت عبدي المؤمن ولم يشكني إلى عواده أطلقته من أساري ثم أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ثم يستأنف العمل) رواه الحاكم وهو صحيح على شرط الشيخين.
وكيف لا تمتثل الروح البشرية الصبر والمصطفى إمام الصابرين؟ يوم أن عودي وأوذي وشتم وضرب ما كان متدرعا إلا بدرع الصبر لأنه إمام الصابرين، صبر على بريق المناصب والأموال وشهوة الرئاسة والملذات، ومحنة الطائف خير شاهد على ذلك.
ثم كان موته عليه الصلاة والسلام خير دروس الصبر لصحابته رضي الله عنهم، فما أعظم من مصيبة النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تعيش معه، لا تصدق بأن الفراق مع الحبيب وهو خير من خلق الله واقع أبدا، لكنه وقع بالفعل لتَهون المصائب بعده كلها، حتى قال شاعر الصبر:
وآل البيت رضي الله عنهم، كان للصبر حقيقة في أفئدتهم، وكان في كل شيء للصبر محل، فهذه فاطمة رضي الله عنها، وهي بنت خير من خلق الله، خاتم الرسل الكرام، وَاشْتَكَت رَضِي الْلَّه عَنْها مَجّل يَدَهَا أي تَقْطِيْع يَدَهَا نَتِيْجَة الْعَمَل الْشَّاق وَاسْتَقَت بِالْقِرْبَة حَتَّى أَثَّرَت فِي عُنُقِهَا، وَقَامَت الْبَيْت حَتَّى اغْبَرَّت ثِيَابُهَا وَخَبَزَت حَتَّى تَغَيَّر وَجْهِهَا؛ لِأَن الْخَبَّاز مَع لَفْح نَار الْفُرْن يَتَغَيَّر لَوْن وَجْهَه كُل ذَلِك حَصَل لـفَاطِمَة رَضِي الْلَّه عَنْهَا فَاقْتَرَح عَلَيْهَا عَلِي رَضِي الْلَّه عَنْه أَن تذْهب إلى أَبِيْهَا تَطْلُب خَادِمَا، حَيْث إِن عَلِيّا رضي الله عنه لَم يَسْتَطِع أَن يُوَفَّر لَهَا خَادِمَا، لَكِن الْنَّبِي الأب الْمُشْفِق الْحَنُون دَلْهَا عَلَى مَا هُو خَيْر لَهَا مِن خَادِم فَقَال: أَلَّا أُخْبِرُك مَا هُو خَيْر لَك؟ فَذَكَر لَهُمَا الْتَّسْبِيح ثَلَاثا ً وَثَلَاثِيَن وَالْتَّحْمِيْد ثُلَاثَا وَثَلَاثِيَن وَالتَّكْبِيْر أَرْبُعَا وَثَلَاثِيَن قَال: (فَتِلْك مِائَة بِالْلِّسَان وَأَلْف فِي الْمِيْزَان) أَي أَن الْأَجْر عِنْد الْلَّه الْحَسَنَة بِعَشْرَة أَمْثَالِهَا، فَذَلِك خَيْر لَكُمَا مِن خَادِم) فرضي الله عن الصابرة.
وهل من صابرة اليوم على فقر زوج، وقلة مال، وخصوصا في هذه الأيام المتسارعة للذائذها الأنفس الضعيفة؟ فَكان مَهْرُهَا-وهي سيدة نساء العالمين- دِرْعَا وَ َان فِرَاشَهَا أَدَمَا حَشْوُه لِيْف، وَكَان تَجْهِيْز بَيْتِهَا سِقَاءَين وَرَحَائِين وَكَانَت مَعِيَشَتَهَا أَن تَخْدِم بِنَفْسِهَا،وَأَن تَقُوْم بِحَق زَوْجَهَا رَضِي الْلَّه عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وأبوها رسول الله، لكن من صبر على البلاء صبر على ما سواه.
ألا تغمر القرائح صبر الحسين رضي الله عنه وما حدث له من البلاء؟ لكن الألباب القوارح لها في أولئك الصادقين أسوة، فرضي الله عنهم جميعا، آلا، وأصحابا.
المحور الثاني: الرضا بالقضاء والقدر.
انه تقدير الله تعالى للأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها.
والقرآن الكريم ذكر ذلك في كثير من الآيات كقوله -على سبيل المثال- في سورة القمر: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]. وهذه آية ومثال، وعدد الآيات التي تكلمت عن القضاء والقدر عشرة، منثورة في تضاعيفه.
والسنة النبوية المطهرة كانت لها أربع أدلة صرحت بالقضاء والقدر، منها حديث جبريل المشهور وفيه (وان تؤمن بالقدر خيره وشره)، وعلى ذلك أجمعت الأمة على وجوب الإيمان به.
حتى الجاهلية قبل الإسلام، عرفت القدر ولم تنكره، فافصحوا عنه بخطبهم، وأشعارهم، فمن قول لعنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي إن كان ربي في السماء قضاها؟ |
ولما نردد الكلمة المشهورة على السنة الناس بـ(إن الحذر لا ينجي من القدر) نتذكر قائلها، وهو هاني بن مسعود الشيباني، أباح بها يوم ذي قار في الخطبة التي ألقاها.
فما من شيء إلا وقد خلقه الله بقدر، قال الحسن البصري رحمه الله في كلمته عن القدر: (إن الله خلق خلقا فخلقهم بقدر، وقسم الآجال بقدر، وقسم أرزاقهم بقدر، والبلاء والعافية بقدر).
ولك أن تسرح في أبيات الشافعي لترسخ عندك الإيمان بالقدر، تلك التي سرحت في فكر ابن عبد البر فقال عنها (هذه الأبيات مِنْ اثبت شيء في الإيمان بالقدر) قوله:-
وما شئت كان وان لم اشأ وما شئت ان لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت وفي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا اعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد ومنهم قبيح ومنهم حسن |
يقول الشيخ محمد الغزالي: (إحساس المؤمن بأن زمام العالم لن يفلت من يد الله يقذف بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤاده، إذْ مهما اضطربت الأحداث وتقلبت الأحوال فلن تبُتّ فيها إلا المشيئة العليا، والحق أنه لا معنى لتوتر الأعصاب واشتداد القلق بإزاء أمور تخرج عن نطاق إرادتنا، ومن ثم ينبغي أن نستقبل الدنيا بيقين وشجاعة ويعجبني قول عليّ:
أيُّ يوميّ من الموت أفرّ؟ يوم لا يُقْدَر؟ أو يوم قُدِر؟
يوم لا يُقدَرُ لا أحذره ومن المقدور لا ينجو الحَذِر!! |
وذاك ما عنته الآيات الكريمة: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾ [التوبة: 51، 52]. يعنون كسب المعركة بالنصر، أو الموت فيها دون الظفر بها، وهو حسن كذلك، لأن ما عند الله من مثوبة محفوظ مضمون.
أما الذين لا دين لهم فهم إن انتصروا أو انهزموا بين عذابين: آجل أو عاجل!! هذا موقف المؤمنين بالأقدار يتّسم بالقوة والتحدي، ولا شائبة فيه لريبة أو استخذاء، غير أن كثيراً من الناس يجهلون هذه الحقيقة أو يجحدونها، ويباشرون أعمالهم وهم يحملون بين جوانبهم هموماً مقيمة، ومشاعر عقيمة، وهم لا يجزعون من أحزان تصيبهم فحسب، بل يجزعون من أحزان يتوقعونها، ويفترضون أن المستقبل قد يرميهم بها) أ.هـ.
وعلى النفس المعرفة بان الرضا هو نتاج الإيمان بقدر الله، فمن رضي عن الله رضي الله عنه، بل إن رضا العبد عن الله من ثمار رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده، رضا قبله اوجب له ان يرضى عنه، ورضا بعده وهو ثمرة رضاه عنه.
وابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين قال: (من ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه، والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه).
وهذا هو السر الذي يسأل عنه الكثير من الناس في بعض مَن يُعجبوهم، تراهم يعيشون على وهن، لكنهم سعداء سعادةً ملأتهم وملأت غيرهم، وكل ذلك بالقناعة، الكنز الذي لا يفنى وإنْ فني متاع الحياة الدنيا وأيامها النزيرة، ثم إذا ابتلاهم مولاهم فوق بلواهم الأولى تراها شقينة هينة بالرضا، وليس هذا لأنه لم يحس بألم وعناء، وإنما الكرب يعيش مع نَفََسِه لكنه لا يعترض على الحكم ولا يتسخط على الحاكم، وهذا هو الإيمان.
إذا اشتدت البلوى تخفَّف بالرضا عن الله فقد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببلية الناس تخفى والبلايا مواهب |
وان كان العبد راضيا أم لا، فلا خروج للعبد عما قدره الله عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور، ملطوف به، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به، ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه، واللطف فيه،فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره،ولطفه يهون عليه ما قدِّر له.
ويعجبني أن أكرر دائما قول ابن ناصر الدين الدمشقي:
يجري القضاء وفيه الخير
لمؤمن واثق بالله لا لاهي
إن جاءه فرح أو نابه ترح
في الحالتين يقول: الحمدلله |
المحور الثالث: التسخط والجزع وما يترتب عليهما.
عادة ما تصاب الاسر المؤمنة بمصيبة الموت ومصائب اخرى، والبعض يقلُّ ايمانه فيعتلي جزعه ويسخط، فيقع بامور حرَّمها الشرع الحنيف، ومنها:-
النياحة، والدعوى بدعاء الجاهلية، وشق الجيوب، وضرب الخدود، ورفع الصوت عند المصيبة، والويل والدعاء به، والنعي المحرم.
روى الامام مسلم عن ابي مالك الاشعري رضي الله عنه أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَرْبَعٌ فِى أُمَّتِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِى الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِى الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ ». وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ».
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «اثْنَتَانِ فِى النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِى النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ».
فالنياحة على الميت من امور الجاهلية، وكذا الإسعاد: وهو المعونة على النياحة والاجتماع لاجلها، وكانوا ايضا الجاهليون، يرسلون بخبر الميت على ابواب الاحياء والاسواق، او يركب المخبر على دابة ويصيح في الناس، وهذا ما يدعى بالنعي وهو النوع المحرم خصوصا اذا كانت الدعوة بنياحة النائح.
كل هذه الافعال حرَّمها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي ارشد فيه امته، كله كان لصلاح ديننا ودنيانا، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » متفق عليه.
ولما وجع أبو موسى وجعا غشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئا فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برىء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة. متفق عليه. و(الصالقة) هي التي ترفع صوتها عند المصيبة من الصلق وهو الصياح والولولة و(الحالقة) التي تحلق شعرها عند المصيبة ويمكن أن يقاس عليها بالمقابل وهو من يمتنع عن حلق شعره المعتاد عند المصيبة (الشاقة) التي تشق ثيابها عند المصيبة، من كل اولئك بري نبي الاسلام عليه الصلاة والسلام.
والعودة إلى ما فات لا يحَسُن الا لذكرى واعتبار، اما لتجديد الحزن، وتنكيء جرح فهذا ما يرديك في جملة المنافقين ومرضى القلوب، وما اكثرهم اليوم بيننا، شافاهم الله.
قال العلماء: الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
المرتبة الأولى: التسخط، وهو على أنواع: النوع الأول: أن يكون بالقلب، كأن يتسخّط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]. النوع الثاني: أن يكون التسخّط باللسان، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام. النوع الثالث: أن يكون التسخّط بالجوارح، كلطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام مناف للصبر الواجب.
المرتبة الثانية: الصبر، فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه، لكنه يحتمله، وهو يكره وقوعه، ولكن الصبر يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب؛ لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال:46].
المرتبة الثالثة: الرضا، بأن يرضى الإنسان بالمصيبة، بحيث يكون وجودها وعدمها سواء، فلا يشق عليه وجودها ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر؛ لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه، لكن صبر عليها.
المرتبة الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته، وربما لزيادة حسناته، قال: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكُها))".
هذه اقسام الناس عند المصيبة، وهذه انواع الناس عند التسخط، فلا يرى ان القدر وقع الا لضر به، فما احتسب شيئا لله، ولا فكر بالخير حالته، لكنه سيقر في مقبل الأيام، وما من اجر عندها.
وذكر علي بن الحسن رضي الله عنه ان رجلا قال للاحنف بن قيس: ما اصبرك؟ فرد عليه قائلا: الجزع شر الحالين يباعد المطلوب ويورث الحسرة ويبقي على صاحبه عارا.
وفي الأيام القادمة وحدها العوض عما فقدنا وليس فيما يغضب المولى، وكما قال الغزالي: فما قيمة ان ينجذب المرء بافكاره ومشاعره إلى حدث طواه الزمن ليزيد ألمََهُ حرقة وقلبه لذعاً.
وبالفعل، فقد اسودت الأيام عقب سواد ملبسهم عليهم، وما آلت نَضِرة، ولا ينكر هذا عقل وهو يشاهده بنفذ الحقيقة المبصرة.
المحور الرابع: مِنْ احكام العزاء.
اولا: حكم التعزية: التعزية مستحبة عند جميع الفقهاء، سواء سبقت الدفن ام تلَته، لانها من التعاون على البر والتقوى الذي جاء في كتاب الله ومما ثبت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح النووي وغيره، ولا خلاف في استحبابها كما اشار ابن قدامة.
ولتعزية صاحب المصاب فضل منسي عند الكثير من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عزى اخاه المؤمن في مصيبته كساه الله حلة خضراء يحبر بها يوم القيامة، قيل:وما يحبر؟ قال: يغبط).اخرجه ابن ابي شيبة وحسنه الالباني، وكذلك ثبتت احاديث عن الحلة والبرد، او الاجر المساوي لاجر المصاب.
ثانيا: صور التعزية: ان افضل صورة للتعزية هي اختيار النبي عليه الصلاة والسلام، هذا قرار العلماء، وحصل اختياره عندما قبض حفيده فارسل لابنته بقوله: (ان لله ما اخذ وله ما اعطى وكل شيء عنده باجل مسمى فلتصبر ولتحتسب). وهذا لفظ من الالفاظ، فلو قال: (اعظم الله اجرك على مصيبتك...) لكان مستنا بسنة النبي، على اي وجه حسن كان، واهمه ما يدخل في المواساة لا حجر على لفظ وكذلك المُعزَّى.
ثالثا: وقت التعزية: يبدأ وقت التعزية بوقوع المصاب، ولاينتهي وقتها، فمتى ما علم بالمصاب شرع له التعزية، وهذا رأي جمهور الفقهاء، ولمِا بعد الدفن ان كان موتا افضل، لانشغالهم بدفنه ابتداءً ولشعورهم بفراقه انتهاءً، اما لمن علم عند وقوعها ففي الأيام الثلاثة الأولى افضل لكراهة تجديد المصاب الذي ينسى غالبا بعد ايامه الثلاث،وجاز بعدها لمن لم يكن عالما بالمصاب.
رابعا: صنع الطعام: اتفق العلماء على ان صنع الطعام سنة وقربة من القربات، وهي ان كانت تصنع لاهل الميت، لامر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك في ال جعفر رضي الله عنه وارضاه، ففيه الاعانة لهم،والجبر لقلوبهم، اما صنعه للناس فمكروه عند عامة اهل العلم، الا اذا كانت هناك حاجة في ذلك ملحة على قول اخرين، كأن يكون القادمون للعزاء من اماكن بعيدة، فيدخل في مدخل الضيافة لهم، واما الذي يسري مسرى الخيلاء والفخر فمقطوع بحرمته.
خامسا: تغيير الهيئات: كرَّه العلماء تغيير الهيئة لاظهار الحزن وابداء الجزع، فهو مناف للصبر الواجب على اقدار الله تعالى والاستسلام لقضائه، والأولى بصاحب المصيبة البقاء على سجيته وطبيعته رضا وتسليما.
سادسا: مراثي الاموات وتأبينهم: الرثاء: هو بكاء الميت بعد موته، ومدحه بتعداد المحاسن، واجاز الجمهور رثاء الاموات بشرط ان يكون مذهبا للاحزان، مثنيا على الرب سبحانه، فهي اشعار بالرضا عما قضى الله، خاليا مما حرم الشرع مما سبق ذكره،وينطبق هذا على التأبين فهو مترادف في معناه بالرثاء.
هذه مجمل ما يحتاجه المؤمن عند وقوع المصيبة، نسأل الله ان يجرنا في مصائبنا وان يخلف لنا خيرا منها انه حكيم عليم.
المصادر حسب الترتيب الهجائي:
1- احكام الجنائز، سعيد بن علي القحطاني.
2- العزاء احكام واداب،شبيب بن محمد الزعبي.
3- القضاء والقدر، محمد بن ابراهيم الحمد.
4- برد الاكباد عند فقد الاولاد،ابن ناصرالدين الدمشقي.
5- جدد حياتك، محمد الغزالي.
6- ديوان الشافعي، تحقيق د.محمد عبد المنعم خفاجي.
7- سنن الترمذي.
8- شرح رياض الصالحين، محمد صالح العثيمين.
9- صحيح البخاري.
10- صحيح مسلم.
11- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني.
12- في ظلال القران، سيد قطب.
13- مدارج السالكين، ابن القيم.