التصور العقدي في الحضارة الإسلامية....منتديات نور اللصباح
في مقابل أوهام وخرافات وضلالات التصوُّر الاعتقادي للأمم السابقة، وأمام عقلية العالم يوم بُعِث رسول الله ، كان إسهام المسلمين بعقيدة التوحيد، تلك العقيدة التي عُدَّت منحة الإسلام للإنسانية، لم ولن تنال الإنسانية مثلها إلى يوم القيامة.
الألوهية في عقيدة الإسلام
في عقيدة الإسلام أن هذا العالم ليس بلا مَلِك، بل له مَلِك واحد، وهو خالقه وصانعه وحاكمه ومدبِّره، له الخلق والأمر كله، وله الحكم {أَلاَ لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، ولا يحدث في هذا العالم شيء إلا بأمره وقدرته، وأن العلَّة الحقيقية لوجوده هي إرادته وقدرته، وأن هذا الكون كله خاضع له في كونه ووجوده، ومنقاد له وطوع أمره {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 83]، وعلى المخلوقات التي تملك إرادة واختيارًا أن تخضع له {أَلاَ للهِ الدِّينُ الْـخَالِصُ} [الزمر: 3][1].
فلأنه I هو الذي خَلَق الكون كله وخَلَق العباد كلهم، فهو الوحيد الذي يجب أن يَتَوَجَّه إليه الخلقُ بالعبادة.
حجة الإسلام البالغة على الخلق
أقام الإسلام الحُجَّة البالغة على أن الله هو الذي خَلَق، وأقام أيضًا الحجة البالغة على أنه ليس هناك إله غيره، فقال تعالى في سياق إيراد الحجة العقلية المنطقية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وتحدَّى I الناس بكل قوَّة فقال: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْـحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ} [سبأ: 27].
والحقيقة أن هذا المنطق كان مُقْنِعًا جدًّا، حتى إن أهل الأرض تلَقَّفُوه بالقَبُول والاقتناع، ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
ويُخْطِئ هنا من يظن أن العرب المسلمين انتشروا في العالم فانتشر الإسلام وانتشرت عقيدة التوحيد لكثرة العرب، ويخطئ أيضًا من يظنُّ أن العرب المسلمين قهروا الناس على دخول الإسلام واعتناق التوحيد بقوة السيف والسلاح، ولنا أن نُرَاجِع تاريخ العالم.
فالعرب المسلمون كانوا قلَّة، وكان سلاحهم ضعيفًا كيفًا وكمًّا، وكانت إمكانياتهم الاقتصادية والعسكرية بسيطة للغاية، ومع ذلك قَبِل العالم في ذلك الوقت أن يترك ديانة البلاد والأمم والحضارات القوية والمتحضرة ويدخل في دين هذه القلَّة البسيطة!
ولعلَّ السؤال المتبادر إلى الذهن هنا هو: لماذا كان ذلك؟! ولماذا كان هذا القبول؟!
وتكمن الإجابة في أنه دين مُقْنِعٌ، وأنها عقيدة تتوافق تمامًا وتتماشى مع الفطرة ومع المنطق، تلك العقيدة التي فطر الله الناس عليها في عبادة واحدٍ أحدٍ، دون منازع أو شريك.
ولنا أن نتساءل الآن:
- مَنْ قهر العرب أصلاً أن يدخلوا في الإسلام، مع أن الرسول وأصحابه كانوا في غاية القلَّة والضعف؟
- مَنْ قهر المصريين وأجبرهم على دخول الإسلام؟ وهل يُعقل أن يستطيع ثمانية آلاف جندي أن يقهروا شعبًا عريقًا كشعب مصر تجاوز عدده وقت الفتح ثمانية ملايين نسمة؟! مع العلم بأن مصر كانت واقعة تحت الاحتلال البيزنطي، وكانت الإمبراطورية البيزنطية آنذاك في غاية القوَّة.
- مَنْ قهر أهل فارس أصحاب الأعداد الغفيرة والتاريخ الطويل على أن يتركوا عبادة السنين ويعتنقوا الإسلام؟
- ومن قهر أهل شمال إفريقيا والأندلس وأفغانستان وباكستان وماليزيا وإندونيسيا والأتراك وغيرهم؟
- بل مَنْ قهر العالم الآن على دخول الإسلام؟ مع أن الجميع يشهد أن المسلمين في حالة أضعف بكثير من الآخرين، وليس مجرَّد دخول بسيط، بل إن الإسلام أسرع الديانات نموًّا في العالم الآن!
فالحقيقة التي لا مراء فيها أن حُجَّة الله بالغة، ودين الله لا ثغرة فيه ولا خطأ؛ ولذلك لا يمكن لأحد أن يقرأ عنه أو أن يعرفه إلاَّ ويعلم أنه الحقُّ، سواءٌ اتَّبعه أم لم يتَّبِعْه.
والحقيقة الأخرى أن إسهام المسلمين في ذلك التصوُّر العقدي لم يقف تأثيره على مَنْ أسلم فقط، بل إنه أفاد غير المسلمين - كما سيأتي بيانه - في وضوح الرؤية العقدية الحقيقية عندهم، وذلك في ناحية التوحيد.
الأثر العقلي لعقيدة التوحيد
لا يخفى أن الأثر العقلي الأوَّل الذي يترتَّب من عقيدة التوحيد على الإنسان هو أن العالم كله تابع لمركز ونظام واحد، ويرى الإنسان في أجزائه المنتشرة ترابطًا ظاهرًا، ووحدة في القانون، ثم بعد هذه العقيدة يستطيع الإنسان أن يأتي بتفسير كامل للحياة، وأن يُقَوِّمَ فكره وعَمَله في هذا الكون على حكمة وبصيرة[2].
أثر الإيمان بالتوحيد على الفكر
ولا ريب أن الإيمان بإله واحد قادر، يُخَلِّص الفكر من تخبُّط التعدُّدية في الآلهة التي لا تستقيم مع الفطرة السليمة، ويُطْلِق قوى النفس والبدن المؤمنة بالله المسيطر على مجريات الحياة والكون، ومَنْ تتعلَّق بيده سبحانه مقادير الخَلْقِ، المتوكّلة عليه نحو العمل والنشاط، مرتكنة إلى أن هناك ربًّا للكون يرى كل ما يدور بين جنباته، ويُثِيبُ المحسن إحسانًا، ويُعَاقِبُ المسيء إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة، فلا يضيع إحسان، ولا يُهْضَمُ حقٌّ عنده[3].
أثر العقيدة في المجتمع
ولا ريب أن أهمَّ آثار هذه العقيدة في المجتمع تتبدَّى حين نريد أن نؤسس مجتمعًا نظيفًا، تسوده العدالة، وتحكمه الفضيلة، وتختفي منه الجريمة، وتُظَلِّلُه الطمأنينة، ويتعاون أفراده على كل ما فيه خيره وصلاحه، فحين نريد ذلك ينبغي أن نؤسس المجتمع على العقيدة الإسلامية التي هي الدِعامة الأولى لبناء المجتمع، وعلى هذا الأساس رَبَّى رسول الله أصحابه، فأوجد المجتمع الفاضل، وتكوَّنت الأُمَّة الإسلامية التي دانت لها الدنيا من مشرقها إلى مغربها.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "انحلَّت العقدة الكبرى، عقدة الشرك والكفر، فانحلَّت العقد كلها، وجاهدهم رسول الله جهاده الأوَّل، فلم يَحْتَجْ إلى جهاد مستأنف لكل أمر أو نهي، وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأُولَى، فكان النَّصر حليفه في كل معركة.. نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفِّقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمِّظة والأكباد المتقدة، وكُسِرَتْ دنان الخمر، فسالت في سِكَكِ المدينة! كلمة واحدة اجتثت عادة متأصِّلة في القوم، ورثوها كابرًا عن كابر {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. قالوا: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا... بينما حاولت أمريكا أن تُحَرِّمَ الخمر، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة؛ كالمجلات، والجرائد، والمحاضرات، والصور، والسينما لبيان مضارِّها، وأنفقت ما يزيد على 60 مليون دولارٍ ضدَّها، وطَبَعَتْ حوالي عشرة بلايين صفحة، وتحمَّلَتْ لتنفيذ القانون حوالي 250 مليون دولار، وأَعْدَمَتْ ثلاثمائة نفس، وسَجَنَتْ ما يزيد على نصف مليون، وصادرت من الممتلكات بحوالي أربعمائة مليون وأربعة ملايين دولار، ومع هذا لم يزد الشعب الأمريكي إلاَّ معاقرة للخمر؛ ممَّا اضطر الحكومة إلى إباحته سنة (1933م)، والسبب بسيط؛ أن التنفيذ للأوامر لم يكن ناتجًا عن الاعتقاد"[4].
وعلى هذا تكون حضارة الإسلام قد أغنت الإنسان بعقيدة صافية نقية، سهلة، سائغة، حافزة للهمم، باعثة للحياة، فتخلَّص من كل خوف ووَجَلٍ، وصار لا يخاف أحدًا إلاَّ الله، وعَلِمَ عِلْـمَ اليقين أنه وحده سبحانه وتعالى هو الضارُّ والنافع، والمعطي والمانع، وأنه وحده الكفيل لحاجات البشر، فتَغَيَّر العالم كله في نظره بهذه المعرفة الجديدة، والاكتشاف الجديد، وصار مصونًا عن كل نوع من العبودية والرقِّ، وعن كل رجاء وخوف من المخلوق، وعن كل ما يُشَتِّتُ البال ويشوش الأفكار، فقد شعر بوَحدة في هذه الكثرة، واعتبر نفسه أشرف خَلْق الله، وسيد هذه الأرض، وخليفة الله بها، يُطيع ربه وخالقه، وينفِّذ أوامره، ويحقِّق بذلك هذا الشرف الإنساني العظيم، والعظمة الإنسانية الخالدة، التي حرمتها الدنيا منذ زمن بعيد.
عظمة الحضارة الإسلامية
إنها عظمة الحضارة الإسلامية التي أتحفت الإنسانية بهذه التحفة النادرة - عقيدة التوحيد - التي كانت مجهولة، مغمورة، مظلومة، مغبونة أكثر من أي عقيدة في العالم، ثم ردَّدَ صداها العالم كله، وتأثَّرت بها الفلسفات والدعوات العالمية كلها في قليل أو كثير، فاضطرت بعض الديانات الكبيرة التي نشأت على الشرك وتعدُّد الآلهة وامتزجت به لحمًا ودمًا أن تعترف - ولو بصوت خافت وهمسة في الآذان - بأن الله واحد لا شريك له، وأُرْغِمَتْ على تأويل معتقداتها المشركة تأويلاً فلسفيًّا، يُبَرِّئُها من تهمة الشرك والبدعة، ويجعلها متشابهة بعقيدة التوحيد في الإسلام، وبدأ رجالها وسَدَنَتُهَا يَسْتَحْيُون من الاعتراف بالشرك، ويخجلون من ذِكْرِه، وأُصيبت هذه الأنظمة المشركة كلها (بمُرَكَّبِ النقص) والشعور بالصغار والهوان.. فكانت هذه التحفة أغلى التحف التي سَعِدَتْ بها الإنسانية بفضل إسهام حضارة الإسلام وبعثة الرسول [5].
د. راغب السرجاني
[1] أبو الحسن الندوي: الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية ص21.
[2] المصدر السابق ص22.
[3] جمال فوزي: معالم الحضارة الإسلامية ص16.
[4] أبو الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص90، وهامش ص68.
[5] انظر: أبو الحسن الندوي: الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية ص21- 24.