اسرار بنى العباس : سر من رأى في خدر تاريخ بني العباس وبعض مجريات الأحداث بتلك العاصمة ( منتديات نور الصباح )
سر من رأى في خدر تاريخ بني العباس
وبعض مجريات الأحداث بتلك العاصمة
أسماء تعددت وجميعها تخص مدينة عريقة في تاريخ وحضارة وادي الرافدين وهي (سام را) (سُرّ من رأى) (وسامراء) وكل هذه الأسماء ترمز إلى هذه المدينة الغابرة في تاريخ بلاد السواد التي أنشأها سام بن نوح على ارض جوخى وسهل الطيرهان بحسب الروايات التاريخية القديمة ثم عمرها وأعاد البناء على أطلالها فيما بعد الخليفة العباسي المعتصم ومن بعده ولده المتوكل الذي بالغ في تطويرها وزيادة رقعتها الجغرافية فجعلوها بذلك من اضخم عواصم الدنيا إذ بلغت مساحتها الإجمالية وقتئذٍ نحو 225كم مربع عدا مساحة البساتين والقصور على الجانب الأيمن من نهر دجلة والحدائق المفتوحة المخصصة لكل أنواع الحيوانات والطيور والوحوش.
فعندما غادر المعتصم بغداد عاصمة آبائه وأجداده منتقلا ومتجها صوب الشمال ليتخلص من دواعي الاحتكاك بين جنده وأهل بغداد بعد أن تكاثرت المشاكل وكثرت شكاوى الناس من مضايقات واعتدا آت جنده وتصادمهم مع الناس الذين كانوا كلما شكوا من ذلك واعدهم المعتصم بالحد من ذلك الأمر وان يجد له حلا حتى فاض بهم فهددوه بنهاية المطاف أن يشكوه إلى الله من هذه المظلمة وان يدعون عليه بالأسحار فقال هذا ما لا طاقة لنا به أبدا.
لذا عزم المعتصم على الخروج بجيشه من بغداد الضيقة إلى مدينة واسعة يبتنيها بعد أن يختار لها موقعا ينتخب بعناية من قبل لجنة خاصة شكلت لهذا الغرض وغادرت بغداد بحثا عن المراد وذلك موضوع خاص لما انتهى رحل المعتصم في سنة 220هجري بعد أن خلف في بغداد ولده الواثق عندما تم اختيار موضع مدينته الجديدة واستقر به المقام لاختيار أحلى موقع في سهل الطير هان كما كان يطلق عليه وتحديدا على أطلال ثاني اقدم قرية عرفها العالم بعد الطوفان وهي سام را التي قيل إن الذي ابتدأ بنائها نوح عليه السلام وقيل أيضا إن الذي ابتناها وعمرها هو سام بن نوح عليهما السلام ودعا لها ولأهلها أن لا يصيبها سوء ولا فرق فكلاهما في نفس الحقبة لكن الأرجح إن نوح عليه السلام هو الذي اتخذها بعد نينوى مع ولده وفي حياته فقد اتخذا بحسب الحموي في معجمه من شاطئ دجلة من الموصل وحتى سام را طريقا سميت المدينة باسمه وهو بالآرامية (طريق سام) والأرجح إنه تم بنائها للاصطياف بها وبقيت في كنف التاريخ وخضعت لتداخل الروم والفرس والصراع فيما بينهما وتوجد دلائل لذلك كالأديرة المنتشرة حتى بلاد الشام ولما دخلها المعتصم لم يجد بها سوى دار كان قد أمر ببنائه جده الرشيد في القاطون أو القاطول ودير للنصارى فتفاهم معهم حول شراء الأرض بعد أن اخبروه انه قد ورد بأخبارهم بأن المدينة ستعمر يوما على يد أحد الملوك الصالحين وستعود حاضرة للدنيا من جديد فاستبشر المعتصم وأمر بالتهيؤ للعمل ثم ابتدأ حراك ضخم للمباشرة بعمل كبير جبار يراد منه إنشاء أسس مدينة كبيرة تصلح كعاصمة جديدة تليق بدولة الخلافة العباسية وبالخليفة المعتصم وجيشه الضخم لذا قد تم استقدام الأيدي العاملة والبناءين المهرة والفنيين على اختلاف صنوفهم كما ابتدأت حملة جلب المواد الأولية للبناء بأنواعها من شتى أرجاء العالم حتى انه أقيم في بلاد الشام باللاذقية معمل خاص لتجهيز ألواح وقطع المرمر المطلوبة لكساء الأبنية بالأحجار والمرمر وكان العمل يجري سريعا ومستمرا لعام ونصف تقريبا لكنها فترة قياسية كون العمل كان تحت إشراف مباشر من لدن المعتصم بنفسه وأمر ببناء قصره واسماه بالجوسق وببناء المساكن للقادة والجند والشوارع واسماها بأسماء القادة أمر بان يفصل بين الأعراق لتجنب إثارة المشاكل ففصل بين الجميع بمناطق سكنية متنوعة فيها مساجد وأسواق وكل مستلزمات الحياة وقد باشر المعتصم غالب أمور دولته من هناك بنحو 221ه وقد استلزم الإنجاز كلفة باهظة إلا إن ذلك تلاشى عندما انتهت مرحلة الإعمار التي أسفرت عن أبهى واجمل مدينة في عصرها تغنى بها كبار شعراء العرب كثيرا ليصفوا بهائها وجمالها الأخاذ.
ومن قصور مدينة المعتصم/-
القصر الكلفة
1/ قصر الجعفري: ألفي ألف درهم ذهب.
2/قصر العروس: ثلاثون ألف دينار
3/قصر المختار: خمسة آلاف دينار
4/قصر الوحيد: ألفي ألف دينار
5/قصر الجعفري المحدث: عشرة آلاف درهم
6/قصر الغريب: عشرة آلاف درهم
7/ قصر المليح: خمسة آلاف درهم
8/ قصر الصبح: خمسة آلاف درهم
9/بستان الإيتاخية: عشرة آلاف درهم
10/التل علوه وسفله: خمسة آلاف درهم
11/ قصر الجوسق: خمسة آلاف درهم
12/المسجد الجامع : خمسة عشر ألف دينار
13/ قصر بركوان للمعتز: عشرة آلاف دينار
14/ قصر القلايد: خمسين ألف بها أبنية
15/ قصر الجوسق: خمسين ألف
16/ قصر الغرّد : ألف ألف درهم
17/ الماجوزة بالمتوكلية :خمسين ألف دينار
18/ قصر البهو: خمسة وعشرين ألف
19/ قصر اللؤلؤة : خمسة آلاف درهم
وقد توفي الخليفة المثمن المعتصم بعد سبعة سنوات فقط من إنجاز مدينته سر من رأى قضاها مستمتعا في مدينته الجديدة الرائعة حتى توفي بها في سنة 227ه ودفن في باحة قصره الجوسق .أما مدينته فإنها هي الأخرى لم تدم في خدر هذا الخيال والجمال لأكثر من نصف قرن ونيف أي نحو خمسة وخمسون عاما فقط حكم فيها بعد المعتصم سبعة خلفاء آخرين ثم هجرت بعد ذلك وساء حالها واصبح اسمها ساء من رأى ولما تردى به حالها حينما عزلت أصبحت ملاذا لقطاع الطرق والسراق والعابثين الخارجين على القانون.
وعود على عصر آخر فأما الواثق فانه لما غادر بغداد بعد فقد حكم بعد وفاة والده نحو خمسة أعوام ثم مرض حتى داهمه الأجل في 232ه ودفن بسامراء في ساحة قصره الهاروني .
واتى عصر المتوكل الذي انشغل في بادئ الأمر بتطوير سر من رأى ولكنه تحول عنها فجأة وكان بسر من رأى سجن كبير يقال له المطبق وقد كان المتوكل حفيد المعتصم هو أول من قرر مغادرة سر من رأى بعد أن عمّر فيها كثيرا وأمر ببناء المسجد الكبير وقصره الجعفري لكنه اتجه صوب دمشق في عام 244ه ليقيم بها في قصر المأمون بين داريا ودمشق وبقي هناك لمدة شهرين وعدة أيام وبعدها لم يستطع البقاء إذ لم يستطيب جوها فقفل راجعا وعاد إلى سر من رأى ليستكمل تطويرها .
فوارة كأس الفرعون في مسجد سر من رأى
عندما عاد المتوكل من بلاد الشام إلى سر من رأى باشر بحملة اعمار وتطوير أسهمت بتطور المدينة قبل أن يتحول عنها إلى بناء المتوكلية جوارها ويشاهد في كتب التاريخ والمستكشفين بعض الصور لأطلال جدران المساجد العالية ودور الحكم والقصور في عاصمة الخلافة العباسية التي انفق لأجل إتمام بنائها مبالغ خيالية تتساءل من فورك ترى كيف كان منظر تلك القصور الشواهق والجدران العالية في ذلك الزمن فتأتيك الإجابة من عمق صحائف التاريخ التي تشير بأنها كانت مغلفة ومزدانة بالنقوش وأحلى أحجار الزينة الملونة وفي جوار المئذنة الملوية وفي وسيط ساحة الجامع الكبير الذي بناه وعمّره الخليفة العباسي المتوكل في سر من رأى والذي لما يزل يعد من اكبر المساجد الإسلامية بالعالم حتى اليوم كانت هناك فوّارة مياه عظيمة تبهر الناظرين يرتفع في وسيطها كأس كبير من الرخام المطعم يشابه كأس الفرعون فسميت تلك الفوارة بكأس فرعون وقد وصفها المستوفي بأنها قطعة واحدة من الحجر محيطها ثلاثة وعشرون ذراع وارتفاعها سبعة اذرع وسمكها نصف ذراع وقد أثبتت التنقيبات وحفريات المسكتشف الألماني هرتسفيلد إن الأساس الأسطواني لقاعدة تلك النافورة الكبيرة كان مبنيا بدقة بالغة بالطوب أي الطابوق مع الجير والرماد ليقاوم تأثير الماء الذي ينساب خلاله وأن كأسها كانت ترتكز على قاعدة مكسوة بالرخام ومزدانة بالتيجان والزخارف المُذهّبة ومطعّمة بالفسيفساء والحلي الزجاجية وقد أعدت فوقها سقيفة دائرية لتظلل عليها وهي من خشب الساج وإنها كانت تستمد مياهها من قناة المتوكل التي شقها إلى مدينته المتوكلية من نهر دجلة .
المتوكلية
وهي المدينة التي ابتناها المتوكل وانفق عليها مبالغ كبيرة ليوصل إليها سبل الحياة والماء ليتمتع بها وليجعلها توازي سر من رأى ولكن حال دون ذلك قدره المحتوم الذي كان بانتظاره بعد أن أنجز بناء مدينته المتوكلية والتي سميت على اسمه وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في عام 247ه ولم تدم له فقد قتل هناك على يد باغر التركي وكان أحد قادة الجيش المتنفذين ويقال إن المتوكل دفن في المتوكلية وبقيت أصابع الاتهام تتجه نحو ولده المنتصر بالتخطيط لتلك الفعلة وذلك التصرف كان منطلق المساس بحرمة خلفاء بني العباس وأول التجاسر عليهم بتلك الجرأة .
ولكن القدر لم يمهل المنتصر فقد جازاه الله فلم تدم له بعد والده أيضا فلم يحكم سوى اقل من عام واحد وتوفي ودفن بسامراء في ساحة قصر الجوسق والذي كان والده المتوكل قد أهداه له وأنزله إياه من قبل في حياته وقيل إن المنتصر هو أول من اظهر له قبر بطلب من والدته .
أحداث هامة حدثت بسر من راى في تلك الحقبة
*وقد حدثت في عام 235ه فتنة فقد ظهر مدعي نبوة في المدينة وهو محمود بن الفرج النيسابوري الذي زعم انه نبي وانه ذو القرنين وتبعه نحو سبعة وعشرون رجلا فلما وصل خبره إلى المتوكل أمر بجلبه وإعدامه على الفور .
*في عام 251ه تم قتل باغر التركي قاتل المتوكل على يد القائد وصيف.
*وفي عام 252ه وأثناء فتنة صراع المعتز والمستعين وانشغال الجيش بها اجتمع بعض السراق من فنهبوا سوق الجوهريين والصيارفة الرئيسي في المدينة.
*وفي عام 253ه حدثت فتنة في ربيعة بالموصل قام بها رجل هو ساور بن عبد الحميد فقد طرد عامل الموصل من بني شيبان وتقدم إلى سامراء وكان ذلك آخر تحرك له فقد قضي عليه هناك وانتهى أمره.
*وقد حدثت فتنة أخرى من قبل الأتراك فخرج لهم القائد وصيف فقتلوه وقطعوا رأسه.
*وفي عام 254ه توفي الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الإمام الحسين الملقب بعلي الهادي ولما أرادوا تشييعه لم يتمكنوا من شدة الزحام فدفن في داره في محلة العسكر بأمر الخليفة وكان قد سمي بالعسكري نسبة لمحلته في المدينة .
*وقد كثرت الفتن ولم تهدأ الأحوال في المدينة والبلاد إلا عندما انتهت فتنة الصراع بين المعتز والمستعين وقد قتل المستعين في واسط وجلب رأسه إلى قصر الخليفة المعتز في سر من رأى وهو يلعب الدست أي الشطرنج فلما فرغ من لعبته قام ونظر إلى رأس المستعين ثم أمر بدفنه في مقبرة الخلفاء بسامراء بالجوسق .
*وبعد نحو عامين وفي سنة 255ه دارت دوائر القدر على المعتز فقد اختلف المعتز مع الجند الأتراك بسبب تأخير استلام رواتبهم فخرجوا عليه وثاروا ثم قبضوا عليه وعذبوه في العراء تحت أشعة الشمس الحارقة وقيل انهم ادخلوه الحمام واكتوى بالماء الحار ثم أخرجوه فضربوه بالدبابيس الحديدية حتى أغشي عليه ثم رفعوه وادخلوه سردابا بإحدى الأبنية بسامراء وجصصوا باب ذلك السرداب حتى مات فيه.
*وقد قتل الخليفة المهتدي زاهد بنو العباس من قبل الأتراك أيضا لما حاول الحد من نفوذهم ففشلت محاولته ولقى مصيرا مؤلما فقد قتل ودفن بمقبرة المنتصر وهي بقصر الجوسق في سر من رأى.
*وفي سنة 258ه حل وباء شديد شمل بغداد وواسط وسر من رأى وقد أزهقت الأرواح وتوفي في بغداد وحدها نحو اثنا عشر ألف ضحية.
*وفي سنة 260ه توفي الإمام الحسن بن علي بن محمد المعروف بالعسكري نسبة إلى محلة العسكر التي كان يسكنها في سر من رأى وقد دفن في نفس الدار التي كان يسكنها ودفن فيها والده من قبل.
*وفي سنة 279 عمّر الخليفة المعتمد قصر المعشوق ثم ترك سر من رأى كلها وارتحل إلى بغداد وقد توفي بنفس السنة في القصر الحسني ببغداد لكنه حمل إلى سامراء ودفن بها في مقبرة الخلفاء بالجوسق.
وبذا تكون سر من رأى قد بنيت على عجل ولمع نجمها لما يزيد على نصف قرن ونيف حتى أضحت اعظم مدن عصرها لكن نجمها لم يدم طويلا فقد أفل على عجل وتحولت إلى أطلال وخراب وآثار لكنها شهدت خلافة
ثمانية خلفاء وضمت رفاتهم وهم/-
(المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد).